يقدم المخرج البريطاني مايكل رادفورد في الفيلم الإيطالي "ساعي البريد" عملا سينمائيا متميزا ينسج بين عدة موضوعات ويطورها بأسلوب بارع مشحون بالمشاعر الإنسانية والعاطفية الرقيقة. ويتناول الفيلم موضوعات في قصة الفيلم بأسلوب سردي متناسق تعزز جمالة قوة أداء ممثليه وإيقاعه المتوازن وتصويره الرائع.
تستند قصة فيلم "ساعي البريد" إلى رواية بعنوان "الصبر المحترق" للمؤلف أنتونيو سكارميتا تدور أحداثها سنة 1952 في قرية تقع في جزيرة إيطالية صغيرة حول ساعي بريد إيطالي بسيط وخجول يفتقر إلى الخبرة في مهنته اسمه ماريو روبولو وعلاقته بالشاعر التشيلي بابلو نيرودا الحائز على جائزة نوبل في الأدب، وهو شاعر يساري معروف بميله للعزلة، ترك بلاده الأصلية تشيلي بعد أن حظر الحزب الشيوعي فيها عام 1948 وتجول في أوروبا قبل أن ينتهي به المطاف للعيش في المنفى في الجزيرة الإيطالية الصغيرة للتمتع بقسط من الهدوء والراحة بعيدا عن المشاكل السياسية في بلاده. فالرواية – كما نرى- تجمع بين شخصية تاريخية حقيقية هو الشعر التشيلي بابلو نيرودا وبين شخصية وهمية هو ساعي البريد، ويشعر ساعي البريد في قرارة نفسه بأنه شاعر بالفطرة رغم أنه يفتقر إلى الكلمات للتعبير عن ذلك، ويشعر ساعي البريد في قرارة نفسه بأنه شاعر بالفطرة رغم أنه يفتقر إلى الكلمات للتعبير عن ذلك، ويبذل كل محاولة ممكنة لمصادقة الشاعر المرموق وكسب وده فيما ينقل إليه كميات هائلة من الرسائل التي يأتي معظمها من نساء معجبات بالشاعر رغم تقدمه في السن، مما يزيد إعجاب ساعي البريد البسيط بمثله الأعلى الشاعر الشهير، كما يراقبه عن بعد بإعجاب وهو يرقص التانجو مع زوجته، ويقرأ شعره بنهم ويعبر عن إعجابه الكبير بالتعبيرات المجازية في قصائده. وبعد محاولات متعددة ينجح ساعي البريد في تبادل أطراف الحديث مع الشاعر الذي يبدأ بمشاركته بآرائه السياسية اليسارية ويعرفه على جمال الشعر وسحره وتعبيراته المجازية وعلى علاقة الشعر بالحياة. ويشرع ساعي البريد، الذي تتطور أحاسيسه ومداركه الشعرية في نظم الشعر بما فيه من تعبيرات مجازية واستعارة وفي تدوين قصائده وتأملاته في دفتر مذكراته. ويلتقي ذات يوم بفتاة أحلامه، وهي شابة رائعة الجمال اسمها بيتريس تزور خالتها التي تملك حانة في الجزيرة، ولكنها لا تعيره أي اهتمام في بادئ الأمر، إلا أنه يتمكن بمثابرته وبتشجيع من الشاعر من كسب ودها ثم الزواج منها.
وبعد أن يقرر الشاعر مغادرة الجزيرة والعودة إلى تشيلي يواصل ساعي البريد بحماسة وصبر (عنوان الرواية الأصلية "الصبر المحترق") نظم الشاعر استعدادا لعرض قصائده على صديقه الشاعر عند لقائهما المقبل، إلا أن ساعي البريد يقتل خلال اشتباك يقع في تجمع جماهيري كان قد دعي إليه لإلقاء قصائده بعد أن يكون قد تعرض لصحوة سياسية على يد صديقه الشاعر. ويكون قبل ذلك قد اصيب بخيبة أمل حين لا يسمع شيئا من صديقه الشاعر بعد سفره فيما عدا قراءة أخبار نجاحه في الصحف. وحين يعود الشاعر في نهاية المطاف إلى الجزيرة يجد في انتظاره تسجيلا بصوت صديقه ساعي البريد الراحل يحمل له رسالة شعرية مؤثرة.
ويستخدم المخرج مايكل رادفورد المونتاج في الجزء الأخير من الفيلم ببراعة مدهشة تزيد من رفع التأثير العاطفي للقصة. ويبرز المخرج في النصف ساعة الأخير من الفيلم ببراعة مدهشة تزيد من وقع التأثير العاطفي للقصة. ويبرز المخرج في النصف ساعة الأخير من الفيلم قدرة فائقة على الجمع بين الشخصيات والمؤلف المختلفة بأسلوب يحرك مشاعر المشاهد ويترك لديه إحساسا عميقا بالارتباط العاطفي بشخصيات الرواية.
تؤكد قصة فيلم "ساعي البريد" على العلاقات الإنسانية وتظهر كيف يمكن لشخص أن يؤثر في حياة شخص آخر مهما تفاوتت خبراتهما في الحياة. وتعرض القصة بأسلوب شاعري في الشكل والمضمون إلى درجة ممكن القول إن قصة الفيلم تدور حول الشعر والشعراء وحول رجل بسيط يحلم بأن يكون شاعرا، ولكنها أيضا قصة حب جميلة ذات مضمون سياسي، وقصة رجل يكتشف ذاته ويكتشف القيم الجميلة والسعادة في الأشياء البسيطة في الحياة. إنها باختصار قصة إنسانية مؤثرة تتعلق بإيمان الإنسان بنفسه وبانتصاره في ذاته. وينتهي فيلم "ساعي البريد" بقصيدة للشاعر بابلو نيرودا يقول مطلعها "وفي تلك السن وصل الشعر إلي وهو يبحث عني".
يتميز فيلم "ساعي البريد" بعدد من مقومات الفيلم المتميز وفي مقدمتها قوة الإخراج على يد المخرج البريطاني المرموق مايكل رادفورد وبراعة السيناريو والحوار والتصوير وقوة أداء الممثلين. ويقم بدور ساعي البريد في الفيلم الممثل الإيطالي ماسيمو ترويسي، وهو أيضا مخرج وكاتب سينمائي معروف. وكان هذا الممثل يعاني من حالة مرض شديد في القلب أثناء تصوير مشاهد الفيلم، واقتصر عمله على ساعة أو ساعتين في اليوم أثناء التصوير بسبب حالته الصحية الخطيرة، ووافته المنية بعد مضي 12 ساعة فقط على انتهاء تصوير آخر مشهد في الفيلم وهو في الواحدة والأربعين سنة من العمر. وقد عرض الفيلم بعد وفاته ورشح عن دوره فيه بعد وفاته لجائزة الأوسكار لأفضل دور رئيسي يقوم به ممثل، وهي من الحالات القليلة التي يرشح فيها ممثل يؤدي دوره بلغة أجنبية لجائزة الأوسكار، ومن الحالات النادرة التي يرشح فيها ممثل للأوسكار بعد وفاته. ويقوم بدور الشاعر بابلو نيرودا الممثل الفرنسي فيليب نويريت الذي يشبه الشاعر نيرودا بشكل يثير الدهشة، وتؤدي الممثلة ماريا جرازيا كيوسنوتا دور الشابة الجميلة بيتريس.
وقد شارك بطل الفيلم ماسيمو ترويسي المخرج مايكل رادفورد والكاتبة السينمائية آنا بافيجنونا في كتابة سيناريو وحوار الفيلم، ورشح السيناريو والحوار لجائزة الأوسكار. ورشح فيلم "ساعي البريد" لأربع جوائز أوسكار أخرى، من بينها جائزة أفضل فيلم، وبذلك يكون أول فيلم أجنبي يرشح لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم منذ ترشيح فيلم "صرخات وهمسات" للمخرج السويدي انجار بيرجمان قبل ذلك باثنين وعشرين عاما. وفاز الفيلم بجائزة الأوسكار لأفضل موسيقى تصويرية في فيلم دراما.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الشاعر بابلو نيرودا كان يمتلك منزلا في الجزيرة السوداء، وهي جزيرة صغيرة قريبة من ساحل تشيلي، مما يضفي على قصة فيلم "ساعي البريد" مزيجا من الخيال والتاريخ الفعلي.